الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل قصّها أثره. والمراضع جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد. وهي المرأة التي ترضع. وترك التاء لاختصاصه بالنساء. أو جمع مرضع بفتح الميم مصدر ميميّ، جمع لتعدد موادّه. أو اسم موضع الرضاع، وهو الثدي: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أي: في رضاعه وتربيته: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أي: برؤيته: {وَلا تَحْزَنَ} أي: بفراقه: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي: كمال قوته {وَاسْتَوَى} أي: اعتدل مزاجه: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي: في أعمالهم. ثم بين تعالى من نبئه عليه السلام، ما تدرج به إلى ما قدّر له من الرسالة، بقوله سبحانه: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} أي: مصر آتيًا من قصر فرعون: {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} قيل وقت القيلولة. وقيل بين العشائين: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} أي: يتنازعان: {هَذَا} أي: الواحد: {مِنْ شِيعَتِهِ} أي: ممن يشايعه على دينه وهم بنو إسرائيل: {وَهَذَا} أي: الآخر: {مِنْ عَدُوِّهِ} أي: من خالفه في دينه وهم القبط: {فَاسْتَغَاثَهُ} أي: سأله الإغاثة: {الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} لكونه مظلومًا: {عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} لكونه ظالمًا. وإغاثة المظلوم واجبة فوجبت إغاثته من جهتين: {فَوَكَزَهُ مُوسَى} أي: ضربه بجُمع كفَّه: {فَقَضَى عَلَيْهِ} أي: فقتله: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} يشير إلى تأسفه على ما أفضى وكزه، من قتله. وسماه ظلمًا واستغفر منه بالنسبة إلى مقامه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أي: بقتله: {فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} يجوز أن يكون قسمًا جوابه محذوف. أي: أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة، لأتوبنّ ولا أظاهر المجرمين. وأن يكن استعطافًا كأنه قال: رب! اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة. فلن أكون، إن عصمتني، ظهيرًا للمجرمين. وأراد بمظاهرتهم، إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده، وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له. قاله الزمخشريّ.قال الناصر: لقد تبرأ عليه السلام من عظيم. لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده. ويروى أنه ثقال يوم القيامة: أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة، أو برى لهم قلمًا، فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار.القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [18- 23].{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّب} أي: الاستقادة أو الأجناد: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ} أي استعانة فقتل من أجله منازعه القبطيّ: {يَسْتَصْرِخُهُ} أي: يستغيثه من قبطيّ آخر: {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أي: بمخاصمتك الناس مع عجزك، وجرّك إليهم ما لا تحمد عقباه: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} أي: لموسى وللإسرائيليّ، وهو القبطيّ: {قَالَ} أي: ذلك العدوّ وهو القبطيّ، لا الإسرائيليّ كما وهم: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} أي: بين الناس بالقول والفعل.قال الزمخشري: الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى} أي: يسرع لفرط حبه لموسى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي: يتشاورون بسببك: {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} أي: من حدّ مملكتهم: {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أي: لحوق الطالبين: {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ} أي: جعل وجهه: {تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي: فلا يلحقني فيه الطالبون: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} أي: جماعة كثيفة: {مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} أي: مواشيهم: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} أي: تمنعان مواشيهما عن الماء، لوجود من هو أقوى منهما عنده، فلا تتمكنان من السقي: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أي: ما شأنكما في الذود: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أي: عاداتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء، عجزًا عن مساجلتهم، وحذرًا من مخالطة الرجال: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أي: فيعجز عن الخروج والسقي. أي: ما لنا رجل يقوم بذلك إلا هو، وقد أضعفه الكبر، فاضطرنا الحال إلى ما ترى.القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [24- 25].{فَسَقَى لَهُمَا} أي: فسقى غنمهما، لأجلهما من غير أجر: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} أي: الذي كان هناك، من شدة الحر: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي: محتاج. والخير أعم من المال أو القوة أو الطعام. وعلى الأخير حمله الأكثرون بمعونة المقام: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} أي: أخبره بجميع ما جرى عليه إلى خروجه لما تآمروا بقتله: {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: بالخروج عند حدّ ولايتهم، إذ لا سلطان لهم بأرضنا.القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [26- 28].{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} أي: اجعله أجيرك ليرعى غنمك، فإنه حقيق بذلك: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أي: خير من أردت جعله أجيرًا، القويّ على العمل المؤتمن فيه.قال الزمخشريّ: وقولها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} كلام حكيم جامع لا يزاد عليه. لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان، أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة، أن تقول: استأجره لقوَّته وأمانته. انتهى.قال الناصر: وهو أيضًا أجمل في مدح النساء للرجال، من المدح الخاص. وأبقى للحشمة. وخصوصًا إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه السلام أن يزوجها منه. وما أحسن ما أخذ الفاروق رضي الله عنه هذا المعنى فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القويّ. ففي مضمون الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين، فكان قويًا وأمينًا: يستعين به على ما كان بصدده رضي الله عنه. انتهى {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ} أي: لقوتك وأمانتك، ما يقوّي المودة ويجذب القلوب: {أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي: على أن تكون أجيري لرعي المواشي بأجرة على ابنتي، هي مهرها عليك، ثماني سنين: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أي: فهو من عندك بطريق التفضل: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} أي: بإلزام أتم الأجلين وإيجابه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي: في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} أي: ذاك الذي عاهدتني عليه، لا نخرج عنه جميعًا: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} أي: أتممت: {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي: بطلب الزيادة على ثمان، أو الخروج بالأهل قبل عشر: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي: شاهد وحفيظ. اهـ.
|